مغالطات الوضع السوري
منذ بدء التوغل الإسرائيلي الجديد في سوريا وجانب من الرأي العام العربي مهيأ لتلقي تبريرات الصبر. ولكن هل يصبر العدو؟ يُساق الحديث كما لو كان الوضع في سوريا، وعلى جبهات المواجهة مع العدو، ومستقبل الأمة، يتشكل عبر الأحكام الذاتية التي يطلقها المرء بينه وبين نفسه. وكثير من النقاشات حول الوضع في سوريا عموماً اليوم تدور كما لو أن الأولوية هي لإصدار أحكام أخلاقية تُصر على فوقيتها بمعزل عمّا يحدث في الميدان.
لن يزول الخطر الإستراتيجي الذي يشكله احتلال العدو لجبل الشيخ عبر الحجج والتبريرات التي يقدمها أنصار النظام الجديد في سوريا (ولن يزول كذلك بتسجيلنا النقاط على هذا النظام، ولكنني أود الذهاب إلى ما هو أبعد من مجرد تسجيل النقاط إلى كشف المغالطات).
من المضحك أن كثيراً من الذين كانوا يسخرون من نظام الأسد بسبب التزامه «الصبر الإستراتيجي» تجاه العدو (وأنا كنت، وما زلت، مع هذه السخرية ما دامت لا تُقدّم في سياق المزايدات والمكايدات) أصبحوا فجأة من دعاة الصبر الإستراتيجي.
يتشقلب بعض «المثقفين» و«المبرراتية» ليقولوا إن الإسرائيليين يضربون مستودعات الأسلحة الآن، لأنهم يخشون للمرة الأولى أن تُستخدم ضدهم، وإنهم لم يضربوها من قبل لأنهم كانوا واثقين أنها لن تُستخدم ضدهم. هذا الكلام كان يمكن أن ينطلي على عاقل في أول يومين للعدوان على سبيل المثال. الآن هناك قوات إسرائيلية تتوغل وتصبح حجة عدم التصدي لها هي أنها اليوم تتوغل لأنه سيُتصدى لها؟! في مصر نقول «آدي الجمل وآدي الجمّال»، ونقول «المياه تُكَدِب الغطاس»، وباللاتينية قالوا «هنا رودس، فلتقفز هنا» (للرجل الذي أقسم أنه قفز في رودس قفزة لم يقفز مثلها إنسان في حكايات أيسوب).
مرة أخرى، لا أريد هنا أن أخوض في تسجيل النقاط. لا يعنيني إن كان العدو قد باشر بالعدوان على سوريا لأنه يشعر الآن بالقلق أو بالاطمئنان، في الحالتين العدو يقصف سوريا ويتوغل في أرضها. وبغض النظر عن رد فعل قوى الأمر الواقع في سوريا ومبرراته ومنطقه، يعنيني أين يقف الرأي العام.
أخذ أي موقف أمام العدو من شأنه الآن أن يدفع باتجاه المصالحة: من شأنه أن يذكر الجميع بأن هناك مشروعاً وطنياً واحداً
لا نتوقع طبعاً من نظام وصل إلى سدة الحكم أمس أن يكون لديه في اليوم التالي القدرة الكاملة على الردع، بل ويمكن حتى أن نتجاهل (مؤقتاً) كل التطمينات والإشارات التي يقدّمها الشرع/ الجولاني للأميركيين من باب أن النظام لم يثبت قدميه بعد. ولكن الصبر على هذه الحالة المؤقتة شيء، وفرض أولوياتها شيء آخر. المغالطة هنا هي هذه المعادلة التي تضع حفظ الأراضي السورية من العدوان الإسرائيلي في كفة، وكل شيء آخر، من استتباب الأمر في سوريا وتثبيت النظام الجديد وحرية معتقلي صيدنايا، في كفة أخرى.
أولاً، حفظ وحدة الأراضي وسلامتها ليست تفصيلة جانبية أو نقطة أخيرة في سلم الأولويات، ولا ترتبط فقط بالحرب الدائرة منذ «الطوفان». هي ألف باء سيادة أي نظام. التبرير بأن النظام الجديد لا يدافع عن هذه الأراضي لأن لديه أولويات أخرى تهريجٌ سياسي لا يختلف عن تهريج القائلين إن النظام لا يدافع عن أراضيه، لأنه يمثل على المدى البعيد خطراً على الصهاينة (وهو تهريج «مبرراتية» الأسد والجولاني سواء).
وهذه تُلحق بها مغالطة أخرى: أن النظام لا يواجه العدوان الإسرائيلي لأنه مشغول بالخروج من آثار الحرب الأهلية. هذه المقولة تنطوي في الواقع على مغالطتين؛ الأولى هي الادعاء الضمني بأن الخيارات المتاحة لا تخرج عن احتمالي الحرب الشاملة والانسحاق الكامل (وبينما هناك مواقف أخرى ممكنة فإن ما يحدث الآن على الجبهة السورية هو حرب شاملة وانسحاق كامل في نفس الوقت). المغالطة الثانية هي تقديم الصمود أمام العدو كما لو كان نقيضاً للملمة الجراح، بينما أخذ أي موقف أمام العدو من شأنه الآن أن يدفع باتجاه المصالحة: من شأنه أن يذكر الجميع بأن هناك مشروعاً وطنياً واحداً ويجدد الالتزام بهذا المشروع الواحد، وسيخرج عليه من سيخرج ولكنه في هذه الحال سيكون خائناً.
ما دمنا نقول إن جهاز القمع الأسدي لم يكن ضرورياً لكي يكون هناك موقف متصد للعدو، فبالمنطق نفسه إن انتهاء هذا الجهاز ليس منوطاً بغياب أي موقف متصد للعدو
أمّا على المستوى العسكري، فإن هذا الالتزام من شأنه أن يكون أرضية لنوع من التوافق (لن أقول التصالح أو التحالف) ما بين النظام الجديد في سوريا وبين خصومه_ ولا أستبعد طبعاً إن اختار فصيل ما في سوريا المواجهة أن يفي «أنصار الله» بوعدهم بدعمه، وأن يحصل هذا الفصيل على نوع من الدعم (ضخماً كان أو ضئيلاً) من الحرس الثوري الإيراني (وبطبيعة الحال سيحرج خصومه عن انتقاده إن فعل). أي إن مواجهة العدو، كلامياً أو عسكرياً، عبر تصعيد محسوب أو مواجهة شاملة، ليست ضرورة أخلاقية فقط، ولكنها كذلك خيار قد يترتب عليه مصالح بعيدة المدى للنظام الجديد ومن يمثلهم أو من سيقعون تحت حكمه. طبعاً هناك مصالح أخرى إن قرر عدم المواجهة، ولكنها مصالح مرتبطة كلها بالاستعمار الأميركي وترتيباته في المنطقة، ما يُعيدنا ليس فقط إلى دائرة الفتنة ولكن كذلك إلى دائرة القمع.
يضع البعض، بحسن نية أو سوئها، مسألة التحرر من القمع الأسدي في مقابل مسألة تحرير الأراضي التي احتلها العدو في الأيام الماضية، ويضع صور المحررين من السجون والمعتقلات وفرحة الفرحين بالحرية في وجه تصورات التصدي والمقاومة.
هذه المغالطة كبرى تخلق حريتين متناقضتين، كأن علينا أن نختار حرية دون أخرى، وهي نفسها المعادلة التي كان يستند إليها نظام الأسد وأنصاره. إن معادلة صيدنايا= التصدي هي نفسها معادلة نظام الأسد معكوسة. أو بعبارة أخرى، ما دمنا نقول إن جهاز القمع الأسدي لم يكن ضرورياً لكي يكون هناك موقف متصد للعدو، فبالمنطق نفسه إن انتهاء هذا الجهاز ليس منوطاً بغياب أي موقف متصد للعدو، وإنّ تحويل أي دعوة للمواجهة إلى الدعوة لعودة أجهزة القمع هو نكوص إلى منطق الأسد. كما أن دروس التاريخ (والمنطق) في كل جزء من العالم يعاني من أطماع الاستعمار (أو «كل دار أو بلاد مستباحة بفعل السياحة مع الأميركان» كما قال الشاعر أحمد فؤاد نجم) تقول إن ربط حرية بعض الناس بمسالمة الاستعمار ستعني بالضرورة، عاجلاً أم آجلاً، قمع البعض الآخر لكي لا تسوّل له نفسه مقاومة الاستعمار.
من أجل كل ذلك أعود إلى ما قلته في مقال سابق وهو إنه بغض النظر عن كل ما جرى، فإن الخروج من الفتنة يقتضي التوافق على مقاومة العدو.
* باحث عربي من مصر